فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ}
إقبال على خطاب المؤمنين بما يفيدهم كمالا ويجنبهم ما يفتنهم.
أخرج الترمذي «عن ابن عباس أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادُهم أن يدعوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد مدة وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة فهمُّوا أن يعاقبوهم على ما تسببوا لهم حتى سبقهم الناس إلى الفقه في الدين فأنزل الله هذه الآية: أي حتى قوله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}».
وهو الذي اقتصر عليه الواحدي في (أسباب النزول) ومقتضاه أن الآية مدنية.
وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضا أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا، فيرقُّ لهم فيقعد عن الغزو.
وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنهم.
فهذه الآية مستأنفة استئنافا ابتدائيا ويكون موقعها هذا سبب نزولها صادف أن كان عقب ما نزل قبلها من هذه السورة.
والمناسبة بينها وبين الآية التي قبلها لأن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غمّ من معاملة أعدائهم إياهم ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم.
وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب، وثناء أو ملام، أو نحو ذلك ليو في الطرفان حقيهما، وكانت تنبيها للمسلمين لأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة كان المسلمون بمكة ممتزجين مع المشركين بوشائج النسب والصهر والولاء فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعا للتفاوت في صلابة الدين، وفي أواصر القرابة والصهر، وقد يبلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامة جميع الأواصر فيصبح الأشد قربا أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد.
فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرّهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى: {فاحذروهم} ولم يأمر بأن يضروهم، وأعقبه بقوله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}، جمعا بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم.
و{مِن} تبعيضية.
وتقديم خبر {إنّ} على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية.
وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} في سورة [البقرة: 8].
وعدُوّ وصف من العداوة بوزن فعول بمعنى فاعل فلذلك لزم حالة الإفراد والتذكير إذا كان وصفا، وقد مضى ذلك عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدوّ لكم} في سورة [النساء: 92].
فأما إذا أريد منه معنى الاسمية فيطابق ما أجري عليه، قال تعالى: {يكونوا لكم أعداء} [الممتحنة: 2].
والإِخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدوٌّ يجوز أن يحمل على الحقيقة فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس وسوء تفكير فيصير عدوّا لمن حقه أن يكون له صديقا، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين ومن الانتماء إلى الأعداء.
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ، أي كالعدوّ في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المثل: يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدوّ لعدوّه.
وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وعُطف على قوله: {فاحذروهم} جملة {وإن تعفوا وتصفحوا} إلى آخرها عطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوبا محبوبا إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظنّ العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأبناء معاملة الأعداء لأجل إيجاس العداوة، بل المقصود من التحذير التوقِّي وأخذُ الحيطة لابتداء المؤاخذة، ولذلك قيل: (الحزم سوء الظن بالناس)، أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] وقال: {أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها. ولو مع توبيخ.
والصفح: الإِعراض عن المذنب، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ.
والغفر: ستر الذنب وعدم إشاعته.
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث.
وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإِرادة عموم الترغيب في العفو.
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقا بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها.
وجملة {فإن الله غفور رحيم} دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم، أي للذين يغفرون ويرحمون، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث.
{إِنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ (15)}
تذييل لأن فيه تعميم أحوال الأولاد بعد أن ذُكر حال خاص ببعْضهم.
وأدمج فيه الأموال لأنها لم يشملها طلب الحذر ولا وصف العداوة.
وقدم ذكر الأموال على الأولاد لأن الأموال لم يتقدم ذكرها بخلاف الأولاد.
ووجه إدماج الأموال هنا أن المسلمين كانوا قد أصيبوا في أموالهم من المشركين فغلبوهم على أموالهم ولم تُذكر الأموال في الآية السابقة لأن الغرض هو التحذير من أشد الأشياء اتصالا بهم وهي أزواجهم وأولادهم.
ولأن فتنة هؤلاء مضاعفة لأن الداعي إليها يكون من أنفسهم ومن مساعي الآخرين وتسويلهم.
وجُرد عن ذكر الأزواج هنا اكتفاء لدلالة فتنة الأولاد عليهن بدلالة فحوى الخطاب، فإن فتنتهن أشد من فتنة الأولاد لأن جُرْأتهن على التسويل لأزواجهن ما يحاولنه منهم أشد من جرأة الأولاد.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي ليست أموالكم وأولادكم إلا فتنة.
وهو قصر ادعائي للمبالغة في كثرة ملازمة هذه الصفة للموصوف إذ يندُر أن تخلو أفرادُ هذين النوعين، وهما أموال المسلمين وأولادهم عن الاتصاف بالفتنة لمن يتلبس بهما.
والإِخبار بـ {فتنة} للمبالغة.
والمراد: أنهم سبب فتنة سواء سعوا في فعل الفتْن أم لم يسعوا.
فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة.
ففي هذه الآية من خصوصيات علم المعاني التذييلُ والإِدماج، وكلاهما من الإِطناب، والاكتفاءُ وهو من الإِيجاز، وفيها الإِخبار بالمصدر وهو {فتنة}، والإِخبار به من المبالغة فهذه أربعة من المحسنات البديعية، وفيها القصر، وفيها التعليل، وهو من خصوصيات الفصل، وقد يعد من محسنات البديع أيضا فتلك ست خصوصيات.
وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها اشتملت على التذييل والتعليل وكلاهما من مقتضيات الفصل.
والفتنة: اضطراب النفس وحيرتها من جراء أحوال لا تلائم من عرضت له، وتقدم عند قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} في سورة [البقرة: 191].
أخرج أبو داود عن بريدة قال: «إن رسول الله كان يخطب يوم الجمعة حتى جاء الحسن والحسين يعثران ويقومان فنزل رسول الله عن المنبر فأخذهما وجذبهما ثم قرأ {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}. وقال: رأيت هذين فلم أصبر، ثُم أخذ في خطبته».
وذكر ابن عطية: أن عمر قال لحذيفة: كيف أصبحت فقال: أصبحتُ أحب الفتنة وأكره الحق.
فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أحب ولدي وأكره الموت.
وقوله: {والله عنده أجر عظيم} عطف على جملة {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأن قوله: {عنده أجر عظيم} كناية عن الجزاء عن تلك الفتنة لمن يصابر نفسه على مراجعة ما تسوله من الانحراف عن مرضاة الله إن كان في ذلك تسويل.
والأجر العظيم على إعطاء حق المال والرأفة بالأولاد، أي والله يؤجركم عليها.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتُلي من هذه البنات بشيء وكنّ له سترا من النار» وفي حديث آخر «إن الصبر على سوء خلق الزوجة عبادة».
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى منها ما رواه حذيفة: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة.
{فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خيْرا لِأنْفُسِكُمْ}
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال.
فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك.
والخطاب للمؤمنين.
وحذف متعلق (اتقوا) لقصد تعميم ما يتعلق بالتقوى من جميع الأحوال المذكورة وغيرها وبذلك يكون هذا الكلام كالتذييل لأن مضمونه أعم من مضمون ما قبله.
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصا على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {ما استطعتم}.
و{ما} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعا لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان.
وجعلت الأزمان ظرفا للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد ولكنه عدل وإنصافٌ.
ففيه ما عليهم وفيه ما لهم.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقّنني: فيما استطعت»، وعن ابن عمر: كنّا إذا بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا «فيما استطعتُ».
وعطفُ {واسمعوا وأطيعوا} على (اتقوا الله) من عطف الخاص على العام للاهتمام به، ولأن التقوى تتبادر في ترك المنهيات فإنها مشتقة من وقى.
فتقوى الله أن يقي المرء نفسه مما نهاه الله عنه، ولما كان ترك المأمورات فيؤول إلى إتيان المنهيات، لأن ترك الأمر منهي عنه إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده.
كان التصريح به بخصوصه اهتماما بكلا الأمرين لتحصل حقيقة التقوى الشرعية وهي اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات.
والمراد: اسمعوا الله، أي أطيعوه بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته.
والأمر بالسمع أمر يتلقّى الشريعة والإِقبال على سماع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وسيلة التقوى قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 17، 18].
وعطف عليه {وأطيعوا}: أي أطيعوا ما سمعتم من أمر ونهي.
وعطْف {وأنفقوا} تخصيصٌ بعد تخصيص فإن الإنفاق مما أمر الله به فهو من المأمورات.
وصيغة الأمر تشتمل واجب الإِنفاق والمندوب ففيه التحريض على الإِنفاق بمرتبتيه وهذا من الاهتمام بالنزاهة عن فتنة المال التي ذكرت في قوله: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15].
وانتصب {خيرا} على الصفة لمصدرٍ محذوف دل عليه {أنفقوا}.
والتقدير: إنفاقا خيرا لأنفسكم.
هذا قول الكسائي والفرّاء فيكون {خيرا} اسم تفضيل.
وأصله: أخْير، وهو محذوف الهمزة لكثرة الاستعمال، أي الإِنفاق خير لكم من الإِمساك.
وعن سيبويه أنه منصوب على أنه مفعول به لفعل مضمر دل عليه {أنفقوا}.
والتقدير: ائتوا خيرا لأنفسكم.
وجملة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تذييل.
و{من} اسم شرط وهي من صيغ العموم: أي كل من يوق شحّ نفسه والعموم يدل على أن {من} مراد بها جنس لا شخص معين ولا طائفة، وهذا حب اقتضاه حرص أكثر الناس على حفظ المال وادخاره والإِقلال من نفع الغير به وذلك الحرص يسمى الشح.
والمعنى: أن الإِنفاق يقي صاحبه من الشحّ المنهي عنه فإذا يُسر على المرء الإِنفاق فيما أمر الله به فقد وُقي شُحّ نفسه وذلك من الفلاح.
ولما كان ذلك فلاحا عظيما جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وُقُوا شحّ أنفسهم، وهو قصر ادعائي للمبالغة في تحقق وصف المفلحين الذين وقُوا شحّ أنفسهم نزّل الآن فلاح غيرهم بمنزلة العدم.
وإضافة {شح} إلى النفس للإِشارة إلى أن الشح من طباع النفس فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها قال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشحّ} [النساء: 128].
وفي الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة قال: «أن تصدّق وأنت صحيح شحِيح تخشى الفقر وتأمُل الغنى. وأنْ لا تدع حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» وتقدم نظيره {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} في سورة [الحشر: 9].
{إِنْ تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ (17)}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {وأنفقوا خيرا لأنفسكم} [التغابن: 16]، فإن مضاعفة الجزاء على الإِنفاق مع المغفرة خير عظيم، وبهذا الموقع يعلم السامع أن القرض أطلق على الإِنفاق المأمور به إطلاقا بالاستعارة، والمقصود الاعتناء بفضل الإِنفاق المأمور به اهتماما مكررا فبعد أن جُعل خيرا جُعل سبب الفلاح وعُرف بأنه قرض من العبد لربّه وكفى بهذا ترغيبا وتلطفا في الطلببِ إذ جُعل المنفق كأنه يعطي الله تعالى مالا وذلك من معنى الإِحسان في معاملة العبد ربّه وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل إذ قال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسّلام: أخبرني عن الإِحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فمما ينضوي تحت معنى عبادة الله عبادة من يراه أن يستشعر العبدُ أن امتثال أمر ربه بالإِنفاق المأمور به منه كأنه معاملة بين مُقرض ومستقرض.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {من ذا الذي يُقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} في سورة [البقرة: 245].
وقرأ الجمهور {يضاعفه} بألف بعد الضاد وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يضعِّفه} بتشديد العين مضارع ضعّف، وهما بمعنى واحد وهو لفظي الضعف.
والمضاعفة: إعطاء الضِعف بكسر الضاد وهو مِثل الشيء في الذات أو الصفة.
وتصدُق بمثل وبعدة أمثال كما قال تعالى: {أضعافا كثيرة} [البقرة: 245].
وجعل الإِنفاق سبب للغفران كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار».
والشكور: فعول بمعنى فاعل مبالغة، أي كثير الشكر وأطلق الشكر فيه على الجزاء بالخير على فعل الصالحات تشبيها لفعل المتفضل بالجزاء بشكر المنعم عليه على نعمة ولا نعمة على الله فيما يفعله عباده من الصالحات.
فإنما نفعها لأنفسهم ولكن الله تفضّل بذلك حثا على صلاحهم فرتب لهم الثواب بالنعيم على تزكية أنفسهم، وتلطف لهم فسمى ذلك الثواب شكرا وجعل نفسه شاكرا.
وقد أوما إلى هذا المقصد إتباع صفة {شكور} بصفة {حليم} تنبيها على أن ذلك من حِلمه بعباده دون حق لهم عليه سبحانه.
وأمّا وصف بـ {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} فتتميم للتذكير بعظمة الله تعالى مع مناسبتها للترغيب والترهيب اللذين اشتملت عليهما الآيات السابقة كلها لأن العالم بالأفعال ظاهرها وخفيّها لا يفيت شيئا من الجزاء عليها بما رتب لها، ولأن العزيز لا يعجزه شيء.
و{الحكيم}: الموصوف بالحكمة لا يدع معاملة الناس بما تقتضيه الحكمة من وضع الأشياء مواضعها ونوط الأمور بما يناسب حقائقها.
والحكيم فعيل بمعنى: المحكم، أي المتقن في صنعه ومعاملته وهما معا من صفاته تعالى فهو وصف جامع للمعنيين. اهـ.